وقفت أتأمل منظر تساقط الثلج خلف النافذة، وأتأمل مشهد الأرض والمرتفعات والبنايات والمركبات وهي تلبس حلة البياض القشيبة .
يسكب منظر الطهر والصفاء الراحة في النفس، ويملأ القلب سرورا وبهجة. ومما زاده رونقا وجمالا، أشعة الشمس الخافتة المتسللة بين الغمام لتلقي بدفئها على البياض الناصع، فيصبح الفضاء الأبيض كأنه قطعة ألماس
شلال من المعاني والأفكار يتدفق في ذهني من وحي جمال هذا المشهد...
"اللون الأبيض هو اللون الوحيد الذي يمتلك القدرة على إخفاء جميع الألوان من حوله بما فيها اللون الأسود وذلك لأنه أكثرهم سطوعا".
سبحان من غمر الكون بجماله وجلاله، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له!
آيات القرآن الكريم التي ورد فيها ذكر البياض تتوالى تترا في مخيلتي، كلها تنطق بمعاني الحسن والبهاء، والطهر والنقاء.
في هذه الآية الكريمة ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ ؛ يصف الله عز وجل وجوهَ أهلِ الرَّحمة والغفران والسعادة بالبياض.
في موضع آخر، يقول تعالىٰ: ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ ؛ جاء ذكر البياض كناية عن ظهورِ الحقِّ ساطعا للناظرين بلا زيف ولا ريب.
وفي وصف رباني للحور العين قال عزوجل: { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } أي" كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن [بوجه]، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت".
ومن أجمل المعاني الواردة في البياض والثلج خاصة ما نقل إلينا في دعاء الاستفتاح الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام. ”اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ”
فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يباعد بينه وبين اقتراف الذنب كما باعد بين المشرق والمغرب، وحشاه أن يقترف الذنوب وإنما فيه تعليم لأمته. ولا شك أن هذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية لله تبارك وتعالى. ثمَّ يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اللَّهُمَّ نَقِّني مِن خَطايايَ كما يُنَقَّى الثَّوبُ الأبيضُ مِن الدَّنَسِ»، إذا كان الوسخ والدنس يَظهَرُ في الثَّوبِ الأبيضَ أكثرَ مِن غَيرِه مِن الألوانِ، فأثر الغسل والتنظيف كذلك يظهر في الأبيض أكثر.
وقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغسِلْ خطايايَ بالماءِ والثَّلجِ والبَرَدِ»، "أي: اللَّهُمَّ طهِّرْني مِن كلِّ ما اقترَفْتُه بكلِّ أنواع المُطهِّراتِ؛ كالماءِ والثَّلجِ والبَرَدِ " ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس في تخصيص الثلج والبرد كمطهرات، في كتابه زاد المعاد جدير بالمطالعة.
دُعاء النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِغُفرانِ الذُّنوبِ والخَطايا، معَ أَنَّهُ قدْ غُفِرَ له ما تَقدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تأخَّرَ، وإن دل على شيء فإنما يدل على كثرة ذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشكره وحسن عبادته لربه جل وعلا، وفيه كذلك إشارة إلى رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته وحرصه عليها بتعليمها وتزكيتها.
يربي دعاء الاستفتاح ـ بصيغه المختلفة ـ المؤمن على تعظيم الله تبارك وتعالى بالقول والعمل، وأيضا يظهر ذل العبد وافتقاره لمولاه، وضعفه بين يدي ربه عندما يطلب منه تخليصه من الذنوب والخطايا.
-الساريات
تعليقات
إرسال تعليق